مُلخصٌ فى ثوانٍ:واقعية القصص التوراتية وأنواعها، تأثير فكرة “وحدانية الخالق” بين قدماء المصريين على الأساطير التوراتية، من الذي كتب التوراة (المعروفة أيضاً بإسم “أسفار موسى الخمسة”)، و الفرق بين أسفار “يهوه” وأسفار “إلوهيم”، وموضوع المقال القادم.
تَوصل جارى جرينبرج1، مؤلف كتاب 101 أسطورة توراتية2، الى إستنتاج مفادة أن معظم قصص العهد القديم غير واقعية و ذات طابع أسطورى. ولإثبات ذلك قام المؤلف بإختيار 101 رواية مذكورة فى التوراة، ثم تناول كلٌ منها على حدة مصحوبة ب“الواقع” (أو المصدر الذى جاءت منه هذه الرواية). وفى غضون ذلك قام السيد جرينبرج بسرد الحجج التى بنى عليها تفنيدة لواقعية النسخة الحالية لهذه الأسطورة. وقد قسم المؤلف الروايات التى إختارها فى كتابة الى ثلاثة فئات، وهى:
الفئة الأولى وهى تشمل الروايات المتناقضة. وهنا لم يكتفى المؤلف بإظهار التناقض بين هذه الروايات فقط وإنما أظهر أيضاً مصدر هذا التناقض. ومن الأمثلة التى إختارها المؤلف لتمثيل هذه الفئة قصتى الخلق والطوفان.
الفئة الثانية وهى القصص التوراتية الوثيقة الإرتباط بروايات شبيهة لها كانت منتشرة بين حضارات الشرق الأوسط. وهنا قام المؤلف بمقارنة الأساطير القديمة للحضارات المجاورة، والتى سبقت ظهور روايات بنى إسرائيل، بروايات العهد القديم. وأورد المؤلف قصة الطوفان البابلية كمثال لذلك.
الفئة الثالثة وهى الروايات المستحيلة الحدوث. وهنا قارن المؤلف بين القصص الأسطورية كما وردت فى التوراة وبين المعلومات التاريخية الموثقة التى توصلنا إليها من خلال الأبحاث الأثرية. مثل قصص تدمير مدن معينة أثبتت الأبحاث الأثرية إما الى وجودها فى مكانٍ أو زمانٍ مخالفين للقصة التوراتية أوالى عدم وجود هذه المدن أصلاً.
يشير المؤلف الى تجاهل كلٌ من علماء اللاهوت و المختصين فى علوم المصريات للتأثيرات الواضحة للحضارة المصرية القديمة على روايات العهد القديم، وذلك بالرغم من وجود علاقات طويلة وقوية بين مصر الفرعونية وبين بنى إسرائيل. فقد كان يوسف رئيساً لوزراء مصر الفرعونية وتزوج ابنة كبير كهنة هليوبوليس. كذلك نشأ موسى داخل قصر فرعون مصر. بالإضافة لذلك كان لمصر الفرعونية تأثير حضارى قوى على فلسطين قبل خروج اليهود من مصر. يرى المؤلف أن كل هذا أدى الى هيمنة الأساطير والروايات الفرعونية على معتقدات بنى إسرائيل.
ويرى المؤلف أن فكرة الرب الواحد القادر والمسئول عن خلق كل الموجودات، بما فيها وجود الآلهة الأخرى، لم يكن لها وجود فى أى ديانة أخرى من ديانات الشرق الأدنى. فالاهوت المصرى القديم، من وجهه نظر المؤلف، هو المسؤول عن هذه المعتقدات. وهى نفس المعتقدات التى نسبها العبرانيون لأنفسهم وتبنتها العقيدة اليهودية على مدى تاريخها.
ومع مرور الوقت تغير هذا الطابع اللاهوتى، فبينما عبد المصريون القدماء العديد من الآلهة الأخرى بجانب الرب الواحد الخالق لكل الموجودات، شدد بنى إسرائيل على عبادة هذا الرب الواحد. أما الآلهة الأخرى فقد تم طمسها فى صورة الملائكة والشياطين. وهى مخلوقات من صنع الرب ولكن الإسرائيليون لم يعبدوها.
يشير المؤلف الى أن قدماء المصريين مروا بتجربة الديانة التوحيدية خلال حكم إخناتون، وهو الفرعون الذى حكم مصر لزمن قصير فى منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وهنا يُذكرنا المؤلف بأن بنى إسرائيل كانو مقيمين فى مصر خلال فترة حكم إخناتون. وهناك أسئلة كثيرة حول تأثير أفكار أخناتون التوحيدية على النُخب العبرية المتعلمة خلال تلك الفترة. ويَعتقد المؤلف أن وحدانية الرب لم تكن جزءاً من الديانة العبرانية فى هذا الوقت المبكر.
فى الفترة التى تلت القرن الخامس قبل الميلاد، جمع المحررون اليهود المصادر الرئيسية للتوراة وأصدروا أول نسخة من التاريخ المكتوب للتوراة بالشكل الذى بين أيدينا اليوم. فى هذه النسخة المنقحة تم التخلص من التضارب الناتج عن طابع التوراة الوثنى السابق وطابعها التوحيدى الحالى.
يعتقد المؤلف أن الأساطير ماهى إلا أعمال أدبية صُنعت غالباً من التفسير الخاطئ للتاريخ أو من الخيال الملئ بالمغالطات، وأن أساطير التوراة لاتخالف ذلك. ويضيف المؤلف أن الأساطير المذكورة في التوراة مرت بمراحل من الصنع يمكن تتبعها عبر العصور الزمنية حتى وصلت لشكلها الحالى.
يركز كتاب “101 أسطورة توراتية” على دراسة الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، وهى: “التكوين” و”الخروج” و”اللاويين” و”العدد” و”التثنية”. هذه الأسفار تعرف بأسفار موسى الخمسة أو التوراة (وهى كلمة عبرية تعنى التعاليم). تروى هذه الأسفار قصة بنى إسرائيل منذ بدء الخليقة وحتى التيه فى الصحراء بعد الخروج من مصر. كما تصف هذه الكتب الخمسة تطور علاقة الرب ببنى إسرائيل. فى البداية ينصب تركيز القصة على العهد الذى قطعة الرب مع “آباء إسرائيل”: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف، وبعد ذلك تهتم القصة بالعلاقة بين الرب وموسى، ثم على العلاقة بين الله وبني إسرائيل، ينتهي السرد التاريخى في هذه الكتب الخمسة بموت موسى بينما شعب إسرائيل على وشك العبور إلى أرض الميعاد.
وبالرغم من أن الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم لم تَذكر أن النبى موسى هو من كتبها، ألا أن علماء اللاهوت، ولمدة تزيد عن ألفى عام، أجمعوا على أن موسى هو المؤلف الوحيد لها. وبالرغم من المعارضة الشرسة من الكنائس، تمكن عددٌ من علماء اللاهوت من تسليط الضوء على عددٍ من التناقضات المنطقية فى فكرة أن موسى هو كاتب هذه الأسفار الخمسة. على سبيل المثال: فى سفر التثنية 43:6، والذى يذكر: “وَدَفَنَهُ (ويعنى موسى) فى الجِوَاء فى أرْضِ مُوآب مُقابل بيت فَغُور ولم يعرِف إنسانٌ قبره إلى هذا اليوم”. لا تصف هذه الآية دفن موسى فقط، بل تَذكر أن مكان قبره غير معروف حتى يومنا هذا. ومعنى ذلك أن هذا الإصحاح كُتب بعد موت موسى بقِسطٍ من الزمن، أى أن موسى يستحيل أن يكون هو من كتب هذا الإصحاح.
ثم قام العلماء بتصنيف القصص التوراتية حسب إسم الله المستخدم فيها، واكتشفوا أن مجموعة القصص التى اجتمعت على إستخدام إسمٌ معين للرب كانت لها موضوعات و أساليب سرد أدبية مختلفة عن تللك القصص التى اجتمعت على أستخدام إسمٌ آخر للرب. هذا الإنقسام فى الموضوع و الأسلوب و إسم الرب المستخدم أدى الى نظرية تشير الى وجود نوعين مختلفين من الكتابة الأدبية لقصص التوراة تم دمجها معاً فى وثيقة واحدة. وأن واحده على الأقل من هذه الوثائق كُتبت بواسطة أفراد غير موسى فى عصور لاحقة لتلك التى عاش فيها.
فى المقال التالى من مراجعة كتاب “101 أسطورة توراتية”، سأتناول المواضيع التالية: “الفرضية الوثائقية”، “المصادر الأربعة للتوراة، “لوح الطوفان الأشورى”، و”الحواشى التوراتية”.
المراجع:
1.جاري جرينبيرج هو مؤلف العديد من الكتب التي نالت استحسانًا كبيرًا عن تاريخ الكتاب المقدس، بما في ذلك الكتاب المقدس الكلاسيكي الشهير “101 من أساطير الكتاب المقدس: كيف اخترع الكتبة القدماء تاريخ الكتاب المقدس”. ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات.
https://en.wikipedia.org/wiki/Gary_Greenberg .2101 أسطورة توراتية، وكيف إبتدع الكتبة القدماء التاريخ التوراتى، تأليف جارى جرينبرج – ترجمة دينا عبد الرؤوف ومراجعة د. منير موسى. دار العين للنشر- الطبعة الأولى 2013 ميلادية.